أفتح عيني من القيلولة نصف انفتاحة أو دون ذلك . ما زال جفناي ثقيلين ، والغمامة السوداء فتلبث في رأسي وتعتقل وعيي الذي يكافح الصحو من غياهب النوم وأرض الأحلام . وللحظة قصيرة تلتبس على نفسي وهويتي ، ويبدو وكأنني أبحث في ذاتي في ذاكرة معطلة ، أو كأنني أعوم في فراغ بلا علامات وشواهد . فاجتهد وسعي في البحث عن علامات تدليني علي وعلى محيطي .. فأصدق بصعوبة خلل الغمامة السوداء التي ما زالت تقلق راسي وعيني … آه .. هذا بيتنا في طولكرم .. خلف سريري النافذة التي تطل على الحديقة ، وأدناها إلى النافذة صف من شجرتي برتقال وشجرة ليمون … أما المتطرفة منها إلى الجنوب فهي من البرتقال البلنسي الذي يتأخر نضجه عن سائر البرتقال ، ويصلح للعصير أكثر من الأكل … أمامي باب حديدي داخلي أخضر اللون … في الركن جهاز المذياع ذي العين في زاويته ، ويتدلى منه سلك ينتهي في زجاجة مملوءة بالماء .. أصوات المخيم المجاور لبيتنا تصل مكتومة عبر الجدار السميك الذي ما زال ينتصل بين وعيي والعالم … وكذلك اصوات الشارع الذي يفصل بين سور حديقتنا ومدار سوكالة غوث غالللاجئين للإناث ، وصياح الديكة ونباح الكلاب من المزارع القريبة . يرتسم في وعيي المشوش المحيط الخارجي لمكاني على السرير في تلك الغرفة من بيتنا … ومع ذلك فتحة لبس ماً ، وخطاً ما .. ما زلت تائهاً في المنطقة الفاصلة بين النوم واليقظة . أشعر أنني معتقل في الحواس المشوشة أريد لو شاهداً واحداً لكي أعرف الآن نفسي ، ويدركني في حسي .. وأسترجع ذاتي من أرض التيه التي يغلفها الضباب .. ثم أنفض رأسي مرة واحدة .. لا .. ليست هذه غرفتي في بيتنا في طولكرم ، وليس هذا بيتنا ، وليس هذا سريري القديم .. وليس ثمة نافذة ورائي تطل على الحديقة وشجيرات البرتقال والليمون . وما في الخارج ليس حارتنا .. ولا شارع نابلس ، ولا بيارة ” الحمد لله ” ولا السهل الذي يقطع وادي ” الزومر ” ، وأنا الراقد هنا ليت الفتى المراهق الذي يحلم بالشاطىء والمدن البعيدة . وتكفيه نظرة سريعة وطيف ابتسامة من فتاة أحلامه ، كي يطير في الهواء ويمشي على الماء ، ويلمس النجوم ويمتطي السحاب ، ويفيض شعراً يحسب أنه يكفيه لاقتحام عالم عصيّ على الفاتحين . لا ليست هذه طولكرم ، وليس هذا الراقد على السرير ذلك الفتى . إنما الراقد هنا هو ما آل إليه ذلك الفتى وقد جاوز الستين .. وخاض في الشواطىء ، التي كان يحلم بها قديماً وبلغ المدن التي كانت بعيدة … وذرع الأرض شرقاً وغرباً ، ونال نصيبه من أسباب السعادة وأسباب الأسى .. من الرغبات الناجزة والرغبات المحبطة .. أما في مكان شبيه بالأماكن التي كان يحلم بها ذلك الفتى الذي كنته .. في عمان .. لندن .. باريس .. نيويورك .. غرناطة .. فيينا … … كا تكون ورملها الأبيض الناصع وشواطئها المتدرجة الألوان . فلماذا يخذلني الوعي في منطقة الغسق التي تتوسط بين النوم واليقظة ! لماذا تغيب الأماكن التي كانت حلماً عندما صارت حاضرة ، وتحضر طولكرم في غيابها لتمحو ناطحات السحاب ببيوتها الصغيرة الواطئة ، وتقصي الشواطىء اللازوردية ، وهي التي حرمتها النكبة من بحرها القريب … وليحل زيتونها وبرتقالها محل الغابات الكثيفة التي تستوطنها الغزلان والوعول والحوريات الطائرة .. وإن هذا ليتكرر بين الفينة والأخرى ، حتى لأخشى أن يحدث يوماً وأبقى معلقاً في ذلك التيه حتى آخر الأيام ! ” .. الماضي لدى صاحب هذه السيرة هو الآن ، وحنينه إلى الماضي شهادة على حاضره .. فما الذي أغراه باستدعائه وتغليفه بهذه الهالة الرومانسية لم تكن تحيط به في وقته حين كان حاضراً ؟ !! لماذا يصفه بالزمن الجميل الطيب المضيء ، وكأنه يقيم به الحجة على حاضرة المغاير ، في أنه ، وكما يذكر .. أن ذلك الماضي لم يكن بجملته أفضل على الصعد العامة والخاصة … لا يضره ذلك وهو يصفه بالزمان الجميل مستنكراً ما عاش فيه من عنت وضنك وقلة يقصّ من أخبارها على أبناء هذا الجيل كلما اتسمت نبراتهم ونفسياتهم بالبطر احتجاجاً وتبرماً على كل شيء .. ليخبرهم عن نعمة يحفلون بها دون أن يدرون .. يخبرهم كيف كان بعضهم يمشي أميالاً طوالاً ، في قيظ الشمس أو المطر ليصل إلى مدرسة متهالكة المبنى ، تدلف على رؤوس الطلبة شتاء ، ويحشر فيها أعداد كبيرة من التلاميذ الذي يبدع بعضهم بعضاً ولا رادع لهم إلا عصا المدرس المعدة بعناية وإتقان لتكون أشدّ إيلاماً ومضافته ، على أن ذلك أهون من العقوبة المنهوبة وعمليات الإذلال العلني ، ولسبب من الأسباب ، أمام جملة من الطلبة والمدرسين .. يخبرهم كيف كان شطر من حيله يدرس في ضوء السراج قبل أن تصل الكهرباء إلى البيوت ، على أن لا يطيل السهر فيستهلك من زيت السراج ما تضيق الأسرة بنفقته . وكيف كان توفير الكتب المدرسية والقرطاسية مطلباً عسيراً يورث الأب كآبة والأبناء شعوراً عميقاً بالذنب . كيف كان المصروف اليومي للإبن السعيد قرشاً أو نصف قرش ، بينما يمشي الأقل خطأً بجيب خاوية . كيف كان الطعام عزيزاً والمائدة فقيرة والأثاث بسيطاً ولا شيء من الأجهزة التقنية الحديثة التي من غدت بعد ذلك من التقنيات المفروغ منها .. لا ثلاجة ولا طباخ الغاز ولا ولا .. لم يكن من ذلك وأحزابه شيء … ومع ذلك فلا يفسد لحنينه إلى ذاك الماضي وتمجيده قضية .. حتى ولا تنقبض كلماته وسطوره بالذكرى الأليمة وهو يقص في سيرته على أبناء هذا الجيل قصص وأنباء تلك الأيام الخوالي في معرض اللوم والتأنيب على تذمرهم من عيوب حياتهم وزمانهم ؛ بل ، وعند استرجاعها يضيء وجهه ويستبد به شعور عامر بالفخر والإعتزاز . بلى … فالماضي الذي تحدث عنه يبقى الزمان الجميل المضيء على الرغم من تلك الصعوبات والمنغصات ، ومسائلاً نفسه لم هذا وهو يعيش ، على صعيده الشخصي ، حاضراً مترفاً … كان مستقبلاً حلم بالماضي به .. فها هي الشهادة العليا والمركز المرموق والإنجازات المهنية والمنزل الحسن .. فلم صار الماضي بأثر رجعي زماناً جميلاً مضيئاً ؟ ثمة من انتقل من نوس إلى ثوس ، وانكسرت أحلامه القديمة . وثمة من انتقل من نوس إلى خير . ولكن الغالب على هذا وذاك أن يلتفتا إلى الماضي بعيون غائمة ومن خلال تنهيدة عميقة يصعد نداء الحنين : ” سقى الله تلك الأيام
كتاب الشاهد المشهود | سيرة ومراجعات فكرية | تأليف: وليد سيف | دار الأهلية للنشر والتوزيع
₪95.00
أفتح عيني من القيلولة نصف انفتاحة أو دون ذلك . ما زال جفناي ثقيلين ، والغمامة السوداء فتلبث في رأسي وتعتقل وعيي الذي يكافح الصحو من غياهب النوم وأرض الأحلام . وللحظة قصيرة تلتبس على نفسي وهويتي ، ويبدو وكأنني أبحث في ذاتي في ذاكرة معطلة ، أو كأنني أعوم في فراغ بلا علامات وشواهد . فاجتهد وسعي في البحث عن علامات تدليني علي وعلى محيطي .. فأصدق بصعوبة خلل الغمامة السوداء التي ما زالت تقلق راسي وعيني … آه .. هذا بيتنا في طولكرم .. خلف سريري النافذة التي تطل على الحديقة ، وأدناها إلى النافذة صف من شجرتي برتقال وشجرة ليمون … أما المتطرفة منها إلى الجنوب فهي من البرتقال البلنسي الذي يتأخر نضجه عن سائر البرتقال ، ويصلح للعصير أكثر من الأكل … أمامي باب حديدي داخلي أخضر اللون … في الركن جهاز المذياع ذي العين في زاويته ، ويتدلى منه سلك ينتهي في زجاجة مملوءة بالماء .. أصوات المخيم المجاور لبيتنا تصل مكتومة عبر الجدار السميك الذي ما زال ينتصل بين وعيي والعالم … وكذلك اصوات الشارع الذي يفصل بين سور حديقتنا ومدار سوكالة غوث غالللاجئين للإناث ، وصياح الديكة ونباح الكلاب من المزارع القريبة . يرتسم في وعيي المشوش المحيط الخارجي لمكاني على السرير في تلك الغرفة من بيتنا … ومع ذلك فتحة لبس ماً ، وخطاً ما .. ما زلت تائهاً في المنطقة الفاصلة بين النوم واليقظة . أشعر أنني معتقل في الحواس المشوشة أريد لو شاهداً واحداً لكي أعرف الآن نفسي ، ويدركني في حسي .. وأسترجع ذاتي من أرض التيه التي يغلفها الضباب .. ثم أنفض رأسي مرة واحدة .. لا .. ليست هذه غرفتي في بيتنا في طولكرم ، وليس هذا بيتنا ، وليس هذا سريري القديم .. وليس ثمة نافذة ورائي تطل على الحديقة وشجيرات البرتقال والليمون . وما في الخارج ليس حارتنا .. ولا شارع نابلس ، ولا بيارة ” الحمد لله ” ولا السهل الذي يقطع وادي ” الزومر ” ، وأنا الراقد هنا ليت الفتى المراهق الذي يحلم بالشاطىء والمدن البعيدة . وتكفيه نظرة سريعة وطيف ابتسامة من فتاة أحلامه ، كي يطير في الهواء ويمشي على الماء ، ويلمس النجوم ويمتطي السحاب ، ويفيض شعراً يحسب أنه يكفيه لاقتحام عالم عصيّ على الفاتحين . لا ليست هذه طولكرم ، وليس هذا الراقد على السرير ذلك الفتى . إنما الراقد هنا هو ما آل إليه ذلك الفتى وقد جاوز الستين .. وخاض في الشواطىء ، التي كان يحلم بها قديماً وبلغ المدن التي كانت بعيدة … وذرع الأرض شرقاً وغرباً ، ونال نصيبه من أسباب السعادة وأسباب الأسى .. من الرغبات الناجزة والرغبات المحبطة .. أما في مكان شبيه بالأماكن التي كان يحلم بها ذلك الفتى الذي كنته .. في عمان .. لندن .. باريس .. نيويورك .. غرناطة .. فيينا … … كا تكون ورملها الأبيض الناصع وشواطئها المتدرجة الألوان . فلماذا يخذلني الوعي في منطقة الغسق التي تتوسط بين النوم واليقظة ! لماذا تغيب الأماكن التي كانت حلماً عندما صارت حاضرة ، وتحضر طولكرم في غيابها لتمحو ناطحات السحاب ببيوتها الصغيرة الواطئة ، وتقصي الشواطىء اللازوردية ، وهي التي حرمتها النكبة من بحرها القريب … وليحل زيتونها وبرتقالها محل الغابات الكثيفة التي تستوطنها الغزلان والوعول والحوريات الطائرة .. وإن هذا ليتكرر بين الفينة والأخرى ، حتى لأخشى أن يحدث يوماً وأبقى معلقاً في ذلك التيه حتى آخر الأيام ! ” .. الماضي لدى صاحب هذه السيرة هو الآن ، وحنينه إلى الماضي شهادة على حاضره .. فما الذي أغراه باستدعائه وتغليفه بهذه الهالة الرومانسية لم تكن تحيط به في وقته حين كان حاضراً ؟ !! لماذا يصفه بالزمن الجميل الطيب المضيء ، وكأنه يقيم به الحجة على حاضرة المغاير ، في أنه ، وكما يذكر .. أن ذلك الماضي لم يكن بجملته أفضل على الصعد العامة والخاصة … لا يضره ذلك وهو يصفه بالزمان الجميل مستنكراً ما عاش فيه من عنت وضنك وقلة يقصّ من أخبارها على أبناء هذا الجيل كلما اتسمت نبراتهم ونفسياتهم بالبطر احتجاجاً وتبرماً على كل شيء .. ليخبرهم عن نعمة يحفلون بها دون أن يدرون .. يخبرهم كيف كان بعضهم يمشي أميالاً طوالاً ، في قيظ الشمس أو المطر ليصل إلى مدرسة متهالكة المبنى ، تدلف على رؤوس الطلبة شتاء ، ويحشر فيها أعداد كبيرة من التلاميذ الذي يبدع بعضهم بعضاً ولا رادع لهم إلا عصا المدرس المعدة بعناية وإتقان لتكون أشدّ إيلاماً ومضافته ، على أن ذلك أهون من العقوبة المنهوبة وعمليات الإذلال العلني ، ولسبب من الأسباب ، أمام جملة من الطلبة والمدرسين .. يخبرهم كيف كان شطر من حيله يدرس في ضوء السراج قبل أن تصل الكهرباء إلى البيوت ، على أن لا يطيل السهر فيستهلك من زيت السراج ما تضيق الأسرة بنفقته . وكيف كان توفير الكتب المدرسية والقرطاسية مطلباً عسيراً يورث الأب كآبة والأبناء شعوراً عميقاً بالذنب . كيف كان المصروف اليومي للإبن السعيد قرشاً أو نصف قرش ، بينما يمشي الأقل خطأً بجيب خاوية . كيف كان الطعام عزيزاً والمائدة فقيرة والأثاث بسيطاً ولا شيء من الأجهزة التقنية الحديثة التي من غدت بعد ذلك من التقنيات المفروغ منها .. لا ثلاجة ولا طباخ الغاز ولا ولا .. لم يكن من ذلك وأحزابه شيء … ومع ذلك فلا يفسد لحنينه إلى ذاك الماضي وتمجيده قضية .. حتى ولا تنقبض كلماته وسطوره بالذكرى الأليمة وهو يقص في سيرته على أبناء هذا الجيل قصص وأنباء تلك الأيام الخوالي في معرض اللوم والتأنيب على تذمرهم من عيوب حياتهم وزمانهم ؛ بل ، وعند استرجاعها يضيء وجهه ويستبد به شعور عامر بالفخر والإعتزاز . بلى … فالماضي الذي تحدث عنه يبقى الزمان الجميل المضيء على الرغم من تلك الصعوبات والمنغصات ، ومسائلاً نفسه لم هذا وهو يعيش ، على صعيده الشخصي ، حاضراً مترفاً … كان مستقبلاً حلم بالماضي به .. فها هي الشهادة العليا والمركز المرموق والإنجازات المهنية والمنزل الحسن .. فلم صار الماضي بأثر رجعي زماناً جميلاً مضيئاً ؟ ثمة من انتقل من نوس إلى ثوس ، وانكسرت أحلامه القديمة . وثمة من انتقل من نوس إلى خير . ولكن الغالب على هذا وذاك أن يلتفتا إلى الماضي بعيون غائمة ومن خلال تنهيدة عميقة يصعد نداء الحنين : ” سقى الله تلك الأيام
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.