هنا كانت عيادة الدكتورة وردية، تشير النساء الى ذلك المهن المتهالك وهنَّ يعبرْن، أمامه، في طريقهن إلى بيوتهن في الغدير وتل محمد وكمب سارة وزيونة، وبغداد الجديدة – بغداد الجديدة التي كانت من أبهى أحياء العاصمة فيما مضى. قبل أن تتحول أسواقها الى مزابل ومياه آسنة، تربط النساء أقدامهن بأكياس النايلون ويخضن في طين النزيزة وهنّ يرفعن صغارهن على أكتافهن. عبرت الشط على مودك وخليتك… تخلت وردية عن عيادتها حين لم تعد تأمن على روحها هناك. دخل الأمريكان وملأت أرتالهم الشوارع فسادت الفوضى، بدل النظام، واشتدت الريح الصفراء. قُلْ لي ما هو مذهبك أقل لك من أنت. تجري الأيام وتبدأ الاغتيالات في العيادات وأمام البيوت. يفر الأطباء من البلد ليعملوا في الاردن وليبيا والخليج وكندا وبريطانيا، تركت بنات شقيقها سليمان بغداد، واحدة تلو الأخرى، وتفرقن في البلاد. كذلك ابنتا يونس. وهاجر ابن كمالة الكبير مع زوجته وابنته ليعمل طبيباً في أوكلاند. وبعد سنوات لحق به أخوه. لا أحد يودّع أو يهيئ حقيبته أمام الجيران. يستعين المهاجرون على قضاء حاجتهم بالكتمان، تنزل النساء الى سوق الذهب ويتركن حليهن في الميزان ويقبضن الدولارات. يبيع الطبيب وأستاذ الجامعة سيارته وأثاث بيته، سراً، ويواصل الدوام في عمله، حتى اليوم الأخير. نشوفكم باجر. يسلم على الزملاء ويترك مبلغاً لفرّاش العيادة أو الكلية ويذهب ولا يعود “باجر”. ثم يسمعون أنه صار في الأردن وهجر بلاد ألف ويلة وويلة. فتح العراقيون عشرات العيادات هناك، شيّدوا مستشفيات كاملة في كل التخصصات، وملأوا الجامعات. ماهرون ومتكبرون، تجمعهم لهجة واحدة وحسرة مشتركة. العراقي الجيد هو المهاجر الجيد. علَّقت وردية على جدار مطبخها ورقة تسجل عليها أسماء القتلى من زميلاتها وزملائها، من تعرفه ومن لا تعرفه. توقد شمعة كل صباح للصلاة والترحم عليهم. وكلما بلغ العدد خمسة شطبت بخط مائل عليهم مثل احصاء النقاط في المباريات الرياضية. خمسة زائد خمسة حتى ضاع الحساب، لا شيء يجري في ذاك البلد بالمفرد الا الولادة. يولد العراقيون فرادى ويموتون جماعات. حتى الزعيم الأوحد وجد من يخلفه ويتناسل مع اسطورته فظهر زعماء متعددون وأوحدون كثرة.. كل شيء بالجملة، الأحزاب والطوائف والتفخيخات وأفراد حراسة المسؤولين. سرقات بالمليارات من الدولارات لا بالملايين، وحتى الدكتاتور صار دكاترة بالجملة وهي لا تعرف أي ملة تتبع ومن هو دكتاتور طائفتها ومن يحميها ومن ينهيها… تتطلع الى الروزنامة في المطبخ وتهمّ بأن تشطب فيها خمسين سنة.. تتعب من آهات التمني ويتراخى عنادها، تذعن لنداء أولادها وتقرّ بأن لا شيء بات يخيِّرها بمواصلة العيش في مكان لم يعد منها ولم تعد منه. سافرت وأخذت معها الرسائل والصور وأرقام الهواتف وحجة البيت وشهادة وفاة جرجس. وصلت الى باريس وقررت أن تصدق، مع من جاء معها من المسيحيين أنها ضيفة الرئيس. تكره صفة لاجئة وترفض أن يعتبروها مضطهدة أو منفية… تتفرج على التلفزيون في شقتها وتتابع المسلسلات التركية. تغير القناة وترى الفيلم المستمر هناك. موت يرقص فوق عشب الحدائق ويمتص عسل التمر ويسكر في حانات أبي نواس. ترى في النشرات رعباً يومياً صار معتاداً أعطنا دمنا كفاف يومنا. بلد فذّ ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشاً. تصلي له فلا تستجيب السماء. سماءها الطيبة الحنون التي لم ترد لها طلباً… أم يشبعون من الدم؟!”. عندما يكون قدرك أن تكون عراقياً في يوم صدر فيه قرار دولي بإبادة العراق وشعبه.. في هذا اليوم عليك أن تبكي كثيراً وتنزف كثيراً وتهذي كثيراً… عليك أن تكون دائم الذهول وعيناك ترمق عراقك وشعبه وهو يدمر نفسه بنفسه… وهكذا تتابع الروائية سيرة الدكتورة وردية اسكندر على دروب الآلام… دروب هجرة تؤجج بمرارتها حنيناً الى أيام كم تتوق النفس اليها… متمنية لو توقف الزمن عندها… وغربة مذلة تمنت لو أن روحها لو غادرتها لحظة مغادرتها عراقها. ومن خلال شخصيتها المحورية هذه تحاول الروائية تصوير الواقع العراقي وتحولاته من عراق آمن كان يجمع جميع كل أطيافه تحت ظله مجتمعين متحابين بأمان الى عراق عبثت به أيادٍ أطاحت بذلك الأمن والأمان وربما بتلك المحبة. تسلط الكاتبة الضوء على قضية هي الأبرز في هذا المشهد الروائي، قضية المهاجرين المسيحيين ومعاناتهم في بلد الاغتراب، ونجحت الى حد كبير في تصويرها للتبدلات الحاصلة للمواطن العراقي على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
رواية طشاري | تأليف: إنعام كجه جي
₪40.00
رواية طشاري للكاتبة : إنعام كجه جي:
- هنا كانت عيادة الدكتورة وردية، تشير النساء الى ذلك المهن المتهالك وهنَّ يعبرْن، أمامه
- في طريقهن إلى بيوتهن في الغدير وتل محمد وكمب سارة وزيونة، وبغداد الجديدة
- – بغداد الجديدة التي كانت من أبهى أحياء العاصمة فيما مضى. قبل أن تتحول أسواقها الى مزابل ومياه آسنة
- تربط النساء أقدامهن بأكياس النايلون ويخضن في طين النزيزة وهنّ يرفعن صغارهن على أكتافهن
- عبرت الشط على مودك وخليتك… تخلت وردية عن عيادتها حين لم تعد تأمن على روحها هناك
- دخل الأمريكان وملأت أرتالهم الشوارع فسادت الفوضى، بدل النظام، واشتدت الريح الصفراء
- قُلْ لي ما هو مذهبك أقل لك من أنت. تجري الأيام وتبدأ الاغتيالات في العيادات وأمام البيوت
- يفر الأطباء من البلد ليعملوا في الاردن وليبيا والخليج وكندا وبريطانيا، تركت بنات شقيقها سليمان بغداد
- واحدة تلو الأخرى، وتفرقن في البلاد. كذلك ابنتا يونس. وهاجر ابن كمالة الكبير مع زوجته وابنته ليعمل طبيباً في أوكلاند
- وبعد سنوات لحق به أخوه. لا أحد يودّع أو يهيئ حقيبته أمام الجيران. يستعين المهاجرون على قضاء حاجتهم بالكتمان
- تنزل النساء الى سوق الذهب ويتركن حليهن في الميزان ويقبضن الدولارات. يبيع الطبيب وأستاذ الجامعة سيارته وأثاث بيته
- سراً، ويواصل الدوام في عمله، حتى اليوم الأخير. نشوفكم باجر. يسلم على الزملاء ويترك مبلغاً لفرّاش العيادة أو الكلية ويذهب ولا يعود
- “باجر”. ثم يسمعون أنه صار في الأردن وهجر بلاد ألف ويلة وويلة. فتح العراقيون عشرات العيادات هناك
- شيّدوا مستشفيات كاملة في كل التخصصات، وملأوا الجامعات. ماهرون ومتكبرون، تجمعهم لهجة واحدة وحسرة مشتركة
- العراقي الجيد هو المهاجر الجيد. علَّقت وردية على جدار مطبخها ورقة تسجل عليها أسماء القتلى من زميلاتها وزملائها
- من تعرفه ومن لا تعرفه. توقد شمعة كل صباح للصلاة والترحم عليهم
- وكلما بلغ العدد خمسة شطبت بخط مائل عليهم مثل احصاء النقاط في المباريات الرياضية
- خمسة زائد خمسة حتى ضاع الحساب، لا شيء يجري في ذاك البلد بالمفرد الا الولادة. يولد العراقيون فرادى ويموتون جماعات
- حتى الزعيم الأوحد وجد من يخلفه ويتناسل مع اسطورته فظهر زعماء متعددون وأوحدون كثرة.. كل شيء بالجملة
- الأحزاب والطوائف والتفخيخات وأفراد حراسة المسؤولين. سرقات بالمليارات من الدولارات لا بالملايين
- وحتى الدكتاتور صار دكاترة بالجملة وهي لا تعرف أي ملة تتبع ومن هو دكتاتور طائفتها ومن يحميها ومن ينهيها…
- تتطلع الى الروزنامة في المطبخ وتهمّ بأن تشطب فيها خمسين سنة.. تتعب من آهات التمني ويتراخى عنادها
- تذعن لنداء أولادها وتقرّ بأن لا شيء بات يخيِّرها بمواصلة العيش في مكان لم يعد منها ولم تعد منه
- سافرت وأخذت معها الرسائل والصور وأرقام الهواتف وحجة البيت وشهادة وفاة جرجس. وصلت الى باريس وقررت أن تصدق
- مع من جاء معها من المسيحيين أنها ضيفة الرئيس. تكره صفة لاجئة وترفض أن يعتبروها مضطهدة أو منفية.
- .. تتفرج على التلفزيون في شقتها وتتابع المسلسلات التركية. تغير القناة وترى الفيلم المستمر هناك
- موت يرقص فوق عشب الحدائق ويمتص عسل التمر ويسكر في حانات أبي نواس
- ترى في النشرات رعباً يومياً صار معتاداً أعطنا دمنا كفاف يومنا. بلد فذّ ضربته لعنة الفرقة فمسخته وحشاً
- تصلي له فلا تستجيب السماء. سماءها الطيبة الحنون التي لم ترد لها طلباً… أم يشبعون من الدم؟!”
- عندما يكون قدرك أن تكون عراقياً في يوم صدر فيه قرار دولي بإبادة العراق وشعبه..
- في هذا اليوم عليك أن تبكي كثيراً وتنزف كثيراً وتهذي كثيراً… عليك أن تكون دائم الذهول وعيناك ترمق عراقك
- وشعبه وهو يدمر نفسه بنفسه… وهكذا تتابع الروائية سيرة الدكتورة وردية اسكندر على دروب الآلام..
- . دروب هجرة تؤجج بمرارتها حنيناً الى أيام كم تتوق النفس اليها… متمنية لو توقف الزمن عندها…
- وغربة مذلة تمنت لو أن روحها لو غادرتها لحظة مغادرتها عراقها
- ومن خلال شخصيتها المحورية هذه تحاول الروائية تصوير الواقع العراقي
- وتحولاته من عراق آمن كان يجمع جميع كل أطيافه تحت ظله مجتمعين متحابين بأمان الى عراق عبثت به أيادٍ أطاحت بذلك الأمن والأمان
- وربما بتلك المحبة. تسلط الكاتبة الضوء على قضية هي الأبرز في هذا المشهد الروائي
- قضية المهاجرين المسيحيين ومعاناتهم في بلد الاغتراب
- ونجحت الى حد كبير في تصويرها للتبدلات الحاصلة للمواطن العراقي على جميع الأصعدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية
10 متوفر في المخزون
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.