لهذه المقالات المختارة، من بين المقالات التي كتبها محمود درويش في السنوات الأخيرة ما يعطيها صفة شهادة الشاعر الفلسطيني على زمنه. والشهادة هنا، ليست مجرد تعليق على الزمن، بل هي أساساً، مصاحبة الزمن عبر التعدد الذي به يكون، من أفق إلى آخر. إنها، تبعاً لذلك، كتابة مع الزمن لا عنه.
ومصاحبة الزمن بالكتابة، بالنسبة لمحمود درويش، لا تتأتى من إملاء الجاهز، كما هي عادة الكلام المبتذل، ولكنها، بالأحرى، تعلّم الأسئلة المنحفرة في العينيّ، حيث تتحول الواقعة إلى حالة منشبكة، مركّبها هو الأسبق في البناء، فلا تبسيط أو اختزال، لا تنازل أو استسهال. مصاحبة لا قوة إرادة استيعاب زمن لا تردد معه أمام ما يغري الخطابات بالجنوح إلى العناية بصياغة ما يستعصي على الصياغة، أو نسيان ما يتطلب حضوراً فورياً وصدامياً في المعيش والأفكار والمواقف.
و”عابرون في كلام عابر” عنوان قصيدة كتبت في سياق هذه المقالات، وهي تحتفظ، هنا بمكانها، فيما هي تشير، مباشرة، إلى حيويتها وحيوية سياقها في الزمن والكتابة معاً. هذا العنوان، القصيدة يهب الاختيار توثباً، وهو، في آن، يثبت ما تحتفل به الانتفاضة من مطلب لا سبيل إلى ترويضه: انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة.
مطلب جذري، ومع ذلك فهو ليس بسيطاً، هذه المرة نتيجة ما انخدع به هؤلاء وأولئك من مبادرة السلام الفلسطيني. وإثبات ما تحتفل به الانتفاضة، منذ انطلاقتها، وضمن صيرورة النضال الفلسطيني، هو ما فجر الهوس الإسرائيلي، بكل ما يتكفل به أمام ذاته والصهيونية العالمية. لذلك فإن المقالات المرافقة للقصيدة تخطّ مساراً جديداً في تفكيك الفكر الصهيوني، بأطرافه المتباعدة، وفق كتابة تواجه مواقف وأفكاراً صهيونية لم يتطرق لها أحد من قبل، بمثل هذه التفاصيل التي لا يدريها غير الخبير بشؤون إسرائيل ونخبتها.
أبرزت القصيدة أن الإسرائيلي بحاجة إلى عدو، به يتعرف على نفسه، وبه يبرر ما يشاء في فلسطين وفي كل مكان. لذلك كانت “هستريا القصيدة” تتجاوز حدود القصيدة، من الكنيست إلى أميركا وأوربا إلى المحكمة في باريس، هستيريا ضد أن يكون الفلسطيني واضحاً تماماً، عندما ينتخب الحجر ليحرك مدار الأسئلة “من الحدود إلى الوجود”، وعندما يصعد بالكتابة إلى أفق ما يجب أن يقال.
هكذا تكون قصيدة “عابرون في كلام عابر” كتابة مع زمن الانتفاضة، وبها يتأكد، ثانية أن محمود درويش شاعر أدرك، منذ فترة طويلة، أن الشعر توأم الفكر، وأن الشعر يصرخ، في حداثتنا، قضايا الوجود الفردي والجماعي، من غير تهاون أو تخاذل. وللمقالات فسحة جليلة، تحس معها بطبقات الزمن متراصة في لا نهايتها. إنه الزمن الفلسطيني حتماً، حيث يكون داخل الأرض المحتلة مقاوماً لمحو التاريخ والذاكرة، ويكون خارجها مواجهاً للحصار، في ردهات مطارات العالم إلى أحياء صبرا وشاتيلا.
في المكانين معاً يتخذ الزمن الفلسطيني وضعية الاستثناء، يتعرض للتفتيت المدعم بـ”القوانين” ولا يتفتت، يُلْقى إلى الأقبية والمخابئ ثم إلى مكان الشهادة يعود. لا ينحدّ المحو ولا ينحدّ الحصار. والانتفاضة مسلك علني خطّه الأطفال بحجارتهم وانقادوا، غير عابئين، إلى حريتهم، هناك يستولون على المشاهد لينبئوا العالم أنهم أحياء، وإلى وطنهم ينتمون. الصورة تشهد على ميلاد الأيدي، والصورة تتعرف، جيداً، على الكونية والعلم الفلسطينيين.
المراجعات
لا توجد مراجعات بعد.